يبدو أن إدارة دونالد ترامب الثانية تمضي في نهجها، الذي يخلط بين السياسة والصفقات التجارية، والاستعراض الشخصي في اختيار ممثليها إلى الخارج. تعيين مارك سافايا، رجل الأعمال الأمريكي من أصول كلدانية عراقية، وصاحب سلسلة متاجر الماريوانا في ديترويت، مبعوثاً خاصاً إلى العراق، هو تجسيد صارخ لهذا التوجه، حيث تَغّلب الولاء الشخصي والرمزية السياسية على الخبرة والدراية بالملفات الحساسة.
سافايا، البالغ من العمر أربعين عاماً، لا يمتلك أي خبرة في العمل الدبلوماسي، أو الحكومي. سيرته المهنية تدور في عالم تجارة القنب، إذ أسس سلسلة محال «Leaf and Bud» التي اشتهرت بحملاتها الإعلانية الجريئة على طريق «8 مايل رود» في ديترويت، لدرجة أن السلطات المحلية اضطرت إلى تقييد إعلاناته بعد شعار «تعال وخذها.. ماريجوانا مجانية».
هذه الصورة لرجل الأعمال المغامر، الذي يسوّق المخدرات القانونية في ولاية متحررة نسبياً، تتناقض تماماً مع الشخصية النمطية للمبعوث الأمريكي إلى بلد متخم بالانقسامات السياسية والطائفية مثل العراق، لكن ترامب لم يرَ في هذا التناقض ما يعيب. على العكس، اعتبر أن سافايا الذي وصفه؛ بأنه «صديق وفيّ وذو فهم عميق للعلاقات الأمريكية العراقية»، قادر على تعزيز الشراكة بين واشنطن وبغداد. وكتب على منصته (تروث سوشيال): «مارك سافايا كان لاعباً رئيسياً في حملتي بميشيغان، وساهم مع آخرين في تحقيق رقم قياسي بأصوات الأمريكيين المسلمين». من الواضح أن الولاء الانتخابي والقدرة على حشد الأقليات باتا معيارين رئيسيين في اختيارات ترامب الدبلوماسية، التعيين لم يأتِ بمعزل عن سياق سياسي متوتر في العراق، فالإدارة الأمريكية الجديدة تبدو مصممة على كبح نفوذ الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، وإعادة ضبط التوازن في بغداد قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة، تصريحات وزير الخارجية ماركو روبيو الأخيرة حول «ضرورة نزع سلاح الميليشيات المدعومة من إيران لأنها تقوض سيادة العراق، وتهدد أرواح الأمريكيين والعراقيين»، تشير إلى أن واشنطن تتجه نحو سياسة أكثر صرامة مع الفصائل المقربة من طهران والمنضوية تحت مظلة «هيئة الحشد الشعبي»، مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر وغيرها. ويبدو أن سافايا سيكون واجهة هذه المقاربة الجديدة: مبعوث غير تقليدي، مرتبط مباشرة بالرئيس، لا يخضع لموافقة الكونغرس المسبقة على تحركاته، لذلك يمكنه التحرك بحرية في ملفات حساسة دون قيود بيروقراطية. في هذا المعنى، يشبه تعيينه رسالة مزدوجة إلى بغداد وطهران معاً، رسالة مفادها:» واشنطن ستتعامل مباشرة وبأدواتها الخاصة، ولن تسمح بأن تدار مصالحها عبر القنوات التقليدية، أو من خلال المؤسسات الدبلوماسية المتثاقلة».
من وجهة نظر واقعية، هذا النهج يحمل مخاطر كبيرة، فالعراق ليس مجرد ملف إداري يمكن لمستثمر، أو مؤثر على «أنستغرام» أن يديره بإلهام شخصي، أو حماسة سياسية، إنه ساحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، تتشابك فيها مصالح إيران وتركيا والولايات المتحدة والخليج، إضافة إلى الانقسامات الداخلية بين مكوناته وطوائفه: الشيعة والسنة والأكراد. التعامل مع هذه التعقيدات يحتاج إلى خبرة عميقة في العلاقات الدولية، وفهم دقيق للنظام السياسي العراقي الهش. وسافايا لا يمتلك شيئاً من ذلك، باستثناء أصله العراقي الذي يبدو أن ترامب استخدمه كورقة رمزية لتبرير التعيين. من جانب آخر، وحسب تقارير إعلامية متقاطعة، أن سافايا لعب دوراً مثيراً في قضية الإفراج عن الإسرائيلية إليزابيث تورسكوف، التي اختُطفت في بغداد عام 2023 من قبل مجموعة شيعية، يعتقد أنها مرتبطة بميليشيا كتائب حزب الله، وحسب مصادر متفرقة، استخدم سافايا علاقاته داخل الجالية الكلدانية، وبعض قنوات التواصل غير الرسمية للتوسط في الإفراج عن الرهينة، في صفقة لم تُعلن تفاصيلها. هذه الحادثة، إن صحت، ربما كانت الشرارة التي جعلت ترامب يرى فيه وسيطاً ناجعاً في التعاطي مع الجماعات المسلحة في العراق، رغم افتقاره لأي خلفية أمنية أو دبلوماسية. لكن اختيار رجل أعمال يدير تجارة الماريوانا لقيادة ملف العراق الأمني، في ظل خطة أمريكية لتفكيك الميليشيات، يثير تساؤلات عميقة حول معايير إدارة ترامب في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط. فبينما يصف ترامب نفسه بأنه «الرئيس الذي أعاد القوة لأمريكا»، فإنه في الواقع يعتمد على شخصيات هامشية وولاءات شخصية، ما يعزز الانطباع بأن واشنطن باتت تنظر إلى العراق من منظور تكتيكي ضيق: كملف أمني محدود، لا يحتاج إلى دبلوماسيين محترفين بقدر ما يحتاج إلى رجال ثقة، يمكنهم تنفيذ الأوامر دون مساءلة.
في المقابل، ترى أوساط عراقية، أن هذه التعيينات تعكس توجه ترامب نحو «خصخصة السياسة الخارجية الأمريكية»، بحيث تتحول الملفات الحساسة إلى أدوات بيد رجال الأعمال، أو المقربين من الرئيس، وهذا يعزز الشكوك حول نوايا واشنطن، خصوصاً في ظل تزامن الخطوات الأمريكية مع تصعيد الضغط على الميليشيات الشيعية، واستهدافها بعقوبات جديدة فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية، مع تلميحات إلى احتمال تنفيذ عمليات محدودة ضد قادة بعض الميليشيات. ويشير بعض المحللين إلى أن تعيين سافايا قبل وصول سفير أمريكي دائم إلى بغداد، وهو المنصب الشاغر منذ أكثر من عام، ليس مصادفة، بل هو إشارة إلى أن ترامب يريد إدارة الملف العراقي من خلال دائرة ضيقة من المقربين، بعيداً عن وزارة الخارجية، فالمبعوث الخاص لا يحتاج إلى مصادقة الكونغرس على تحركاته، ويعمل مباشرة تحت إشراف الرئيس، ما يجعله أداة تنفيذية مرنة. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن هذا النهج قد يعمق الانقسام داخل العراق، إذ يُنظر إلى سافايا كوجه أمريكي صريح ينفذ أجندة معادية للفصائل الشيعية، ما قد يثير ردود فعل عدائية من قوى «الإطار التنسيقي» القابضة على مفاصل السلطة، كما أن علاقاته الوثيقة مع ترامب وظهوره المتكرر إلى جانبه في المناسبات العامة وداخل البيت الأبيض ومنتجع مارالاغو، تعزز صورة «المبعوث الموالي بلا قيد أو شرط»، أكثر من كونه دبلوماسياً نزيهاً.
ربما ما يريده ترامب تحديداً: مبعوثاً يثق به، لا يناقشه، ولا يعترض على رؤيته بأن الحل في العراق يبدأ بتقليم أظافر طهران داخل العراق، تصريحات مستشاريه المقربين في الحملة الانتخابية السابقة أوضحت، أن الإدارة ترى في العراق «الخاصرة الرخوة لإيران»، وأن «تفكيك الميليشيات» شرط مسبق لإعادة بناء العلاقة الثنائية بين واشنطن وبغداد. هذا التوجه يجد صداه في تصريحات ماركو روبيو الأخيرة، الذي دعا إلى «نزع سلاح الميليشيات التي تنهب موارد العراق لصالح إيران».
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل مارك سافايا مؤهل فعلاً لإدارة هذا الملف المعقد؟ الإجابة الواقعية، استناداً إلى كل ما نُشر عنه، هي لا. فالرجل لا يمتلك أي خبرة سياسية، ولم يتولَّ أي منصب رسمي سابق، ولا يُعرف عنه سوى أنه تاجر ناجح ومؤثر على مواقع التواصل، ومع ذلك، فإن تجربته في إدارة «صفقة تورسكوف» المزعومة، إلى جانب أصله العراقي وانخراطه في حملات ترامب الانتخابية، جعلته يبدو في نظر الرئيس «الوسيط المثالي» بين واشنطن وبغداد.
اللافت أن هذا التعيين يأتي في لحظة مفصلية من تاريخ العراق، حيث يتعرض البلد لضغوط متزايدة من واشنطن وطهران على حد سواء، وسط تصاعد التوترات الإقليمية بعد حرب غزة، واستهدافات متبادلة بين القوات الأمريكية والفصائل العراقية الموالية لإيران. وبالتالي، فإن مهمة سافايا لن تكون سهلة، لا من الناحية السياسية ولا من الناحية الأمنية. وفي المحصلة، يبدو أن اختيار مارك سافايا مبعوثاً خاصاً إلى العراق، تجسيد لأسلوب ترامب في الحكم: الجمع بين الولاء الشخصي والرمزية الإعلامية، على حساب الكفاءة والخبرة، لذلك هو قرار يختزل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ضمن منطق الصفقات الفردية والعلاقات الشخصية، ويعيد إنتاج الأخطاء ذاتها، التي ساهمت في تعقيد المشهد العراقي منذ عام 2003. وبينما يرى ترامب في سافايا «جسراً» بين واشنطن وبغداد، قد يراه العراقيون تجسيداً جديداً للنفوذ الأمريكي في ثوب مدني وشخصية مثيرة للجدل بوجه مبتسم يعبق برائحة الماريوانا.
كاتب عراقي